ما هي مناسبة “أوبون” وفعالياتها في اليابان؟!
تكثر في الثقافة اليابانية المهرجانات والمناسبات التي ترتبط إما بأمور دينية أو أساطير أو اعتقادات، توارثها اليابانيون منذ قديم الزمان جيلاً بعد جيل محافظين على ثقافتهم. حيث تُعد هذه المهرجانات والمناسبات أحداثاً مميزة تربط اليابان بأجدادهم في الماضي وسبيل للترفيه عن النفس والاستمتاع بالفعاليات ورؤية الأصدقاء والأحباء.
ومن هذه المهرجانات والمناسبات التي ترتبط بالديانة البوذية هي مناسبة “أوبون” وهي من المناسبات التي تحتفل بها اليابان كل عام لإحياء ذكرى الراحلين عن هذا العالم. أعتقد أن كثير من العرب لديهم معرفة أن هناك مناسبة في اليابان من هذا النوع ولكن لا يعرفون اسمها أو مظاهرها بشكل مفصل. لذا في هذه المقالة سأشرح لكم بالتفصيل معنى هذه المناسبة ومظاهرها وفعالياتها. لنبدأ معاً في جولتنا الثقافية.
ماذا يعني “أوبون”
مناسبة أوبون أو فقط كلمة “أوبون” وهي الفترة التي تعود فيها أرواح الذين رحلوا عن العالم والأسلاف والأجداد ليقضوا الوقت مع عائلاتهم وأحبائهم. وفي هذه المناسبة يتم استعمال قناديل الإضاءة بكثرة.
يُعتقد أن أصل “أوبون” هو اختصار للمصطلح البوذي “أورابونئي”(盂蘭盆会)، وهو مصطلح السنسكريتية ويعني “مقلوب رأساً على عقب”، وهذا يدل على معاناة الأرواح الكبيرة في العالم الآخر. ومن أجل مساعدتهم تُقام مناسبة أوبون لإعادة إحياء ذكرى الذين أخطئوا في الدنيا وسقطوا في الجحيم لإنقاذهم ومسح خطاياهم.
وعادةً تتم مناسبة أوبون بمواعيد تختلف من منطقة لأخرى في اليابان، مثلاً هناك مناطق تقوم به في 13 من شهر يوليو حتى 16 من الشهر نفسه، مثل بعض المناطق في طوكيو ويوكوهاما ومنطقة توهوكو. بينما تقوم به مناطق أخرى في اليابان في 13 حتى 16 من شهر أغسطس.
وهذا بسبب اتباع بعض المناطق التقويم القمري القديم بينما تتبع مناطق أخرى التقويم الميلادي في إقامة المهرجانات والمناسبات. مما نتج اختلاف مواعيد الأوبون في اليابان حسب المنطقة. وعادةً يستمر الحدث لمدة أربعة أيام، فاليوم الرابع هو يوم رحيل الأرواح وتوديعها.
ماذا يفعل الناس في أوبون
في هذه المناسبة المميزة يقضي الجميع فيه العطلة بزيارة عائلاتهم والتجمع في بيوت الأجداد، حيث يبدأون الحدث عادةً بإشعال النيران أمام البيوت للترحيب ولمساعدة الأرواح للوصول إلى عائلاتها وأحبائها بسهولة دون أن تُضِل طريقها. ولكن بسبب كثرة المنازل ولاعتبارات بيئية أصبحت القناديل والمصابيح الورقية بديلاً مناسباً، حيث أصبحت تُستعمل كثيراً حول المنازل والمقابر.
ومن مظاهر الأساسية للأوبون هو تحضير “السايدان” ويعني “رف الأرواح”، وهو مكان خاص يتم تحضيره كحلقة وصل مع الأرواح ومن أجل أن تمكث فيه عندما ترجع إلى هذا العالم، ويُستعمل عادةً طاولة مكتب صغيرة أو بضعة رفوف تُركب كالدرج حتى تشبه شكل السايدان، وتوضع عليه قطعة قماش والزهور والشمعدان والبخور، كما ويتم تزيين الزوايا الأربع بالخيزران والأعشاب البحرية والزهور والفواكه الطازجة والخ.
كما ويذهب الكثير من الناس إلى المقابر مع عائلاتهم لتزيين القبر ووضع الشمع والطعام على رفوفه تماماً كما يفعلون في البيت. بالطبع توضع الأطعمة اللذيذة وخصوصاً التي كانت مفضلة لتلك الأرواح حتى تأخذها كتذكار عندما ترجع للعالم الآخر.
ولكن قبل أن يعم الظلام يقوم الجميع برفع الأطعمة أو تناولها لأنه ليس من الجيد تركها على حالها فقد تُسبب اتساخ المكان بسبب الطيور والحيوانات التي قد تنجذب للرائحة، كما ويعد ترك الطعام بلا تناوله إهدار وتصرف غير جيد في الثقافة اليابانية.
الخيار والباذنجان
من عادات مناسبة أوبون المميزة زينة الخيار والباذنجان. حيث يتم غرز عيدان الطعام في الخيار ليمثل صورة الخيل، بينما تغرز العيدان في الباذنجان ليمثل صورة البقرة. ولكن هنا يأتي السؤال، لماذا صورة الخيل والبقرة؟ بالطبع هناك دلالة ومقصد وراء هذا الشكل، فالخيل والبقرة هم وسيلة روحية لنقل الأرواح من العالم الآخر لهذا العالم ومساعدتها للهبوط على الأرض بسلام.
فالخيار الذي يمثل صورة الخيل يعبر عن رغبة مُقدميه في ركوب الأرواح للخيل ليصلوا إلى العالم بسرعة، وهذا لأن الخيل قوائمه سريعة الركض ورشيق. بينما الباذنجان الذي يمثل البقرة، نجدها عكس الخيل تماماً، فالمقصد من البقرة هو رجوع الأرواح إلى العالم الآخر ببطئ وتمهُل بينما يستمتعون بالمشاهد الجميلة، وهذا لأن البقرة ثقيلة الحركة وبطيئة مقارنةً مع الخيل.
وربما السبب وراء استعمال الخضار هو لسهولة الحصول عليها في الصيف وفي أي مكان في اليابان، لذا شاع استعمالها في أوبون. ولكن هناك أماكن أخرى تستعمل قصب السكر بدل الباذنجان لمساعدة رجوع الأرواح للعالم الآخر. لذا الأمر يعتمد على ما يتوفر في هذا الموسم وشاع استعماله كثيراً منذ القدم.
رقصة الأوبون
رقصة أوبون وهي من أهم وأبرز مظاهر مناسبة أوبون، والتي يتم تأديتها في نهاية الأوبون بالليل، من أجل أن ترجع الأرواح بسلامة للعالم الآخر ولا تُضِل الطريق. ويشارك في هذه الرقصة المميزة الكثير من الحاضرين ويكونوا مرتدين لباس تقليدي مميز وخفيف مناسب للرقص على الإيقاعات المميزة.
وبالطبع يستطيع الجميع المشاركة حتى وإن لم تكونوا مشاركين فيها بالزي التقليدي، حيث يمكن لأي شخص مواكبة الجميع بتأدية حركات الرقصة من خلال مشاهدتهم وتقليدهم.
أصل الرقصة في الماضي كان من أجل التضرع والخشوع، ولكن مع مرور الزمن تغيرت ودخل عليها حركات من رقصات أخرى منوعة تختلف قليلاً عن حركات الرقصة في الماضي. مما نتج عن ذلك اختلاف أداء الرقصة من منطقة لأخرى وأصبحت أكثر متعة وإثارة في جميع المناطق.
أما من ناحية كيفية تأديتُها، عادةً يشكل الحاضرين والمشاركين دائرات كبيرة للاحتفال والطواف حول المعابد والأضرحة في الميادين والساحات، وغالباً ما يكون في المنتصف الأشخاص المسؤولين عن الموسيقى حيث يعزفون الناي ويدقون الطبول ويغنون الأغاني التقليدية، كما يأدون الرقصات ويقوم الجميع بتقليدهم من أجل تأدية رقصة متناسقة.
الفوانيس العائمة “تورو ناغاشي”
تورو ناغاشي (灯籠流し) وتعني طوف الفوانيس على الماء، حيث أن “تورو” ( 灯籠) تعني في اليابانية “فانوس” بينما “ناغاشي”(流し) يعني طوفان أو جريان المياه. وهو آخر نشاط يُقام في آخر أمسية من مناسبة الأوبون.
فكما تم استقبال الأرواح من العالم الأخر إلى الأرض بإشعال النار لإرشادها إلى عائلاتها وأحبائها، يتم إشعال النار أو القناديل مجدداً لمساعدة هذه الأرواح للرجوع بسلام إلى العالم الآخر. حيث يُعتقد أن الأرواح يمكن أن تعود إلى العالم الآخر دون تردد من خلال الاستماع إلى دخان النار. وهذا يعني أن النار هي الدليل لطريق العودة.
وتعد الفوانيس العائمة “تورو ناغاشي” هي واحدة من هذه الوسائل التي يستعملها اليابانيون في بعض المناطق في آخر يوم من مناسبة أوبون، حيث يقومون بصنع الفوانيس الورقية معاً أو شرائها. ويكتبوا عليها رسائل عديدة لأحبائهم وأجدادهم الذين رحلوا عن العالم والعديد من الأمنيات الدافئة.
وعند حلول الليل يذهب الجميع حول الأنهار، ليضيئوا شعلة الفوانيس ويلقونها في النهر القريب منهم. فتطفو هذه الفوانيس فوق الماء بهدوء فيتبعها الأرواح حتى يرجعوا إلى العالم الآخر بسلام. كما تعد الفوانيس وسيلة للدعاء من أجل عالم مسالم وأن تكون الأجيال القادمة مسالمة وسعيدة تماماً مثل جمال ودفئ أضواء الفوانيس.
الألعاب النارية
من أشهر المهرجانات للألعاب النارية وأقدمها هو مهرجان سوميدا الذي يُقام عند “نهر سوميدا” في السبت الأخير من شهر يوليو. ففي عام 1733م أي قبل حوالي 300 عام، توفي حوالي مليون شخص بسبب المجاعة والمرض، فقرر الشوغون “توكوغاوا يوشيموني” عقد المهرجان في ذلك الوقت عند نهر سوميدا، من أجل الحداد والدعاء لقمع المرض القاسي معتمداً على الألعاب النارية.
ويرجع السبب أن العديد من مهرجانات الألعاب النارية التي تُقام قبل وبعد فترة أوبون إلى حقيقة أن الألعاب النارية ترتبط بأرواح الموتى، وهي تُقدم كخدمة تذكارية للأجداد والأسلاف الذين رحلوا عن هذا العالم ولنشر الفرحة والأمل في قلوب الجميع بألوانها الزاهية وارتفاعها العالي.
ماذا أعتقد بشأن مناسبة أوبون
أتذكر أول ما جذبني للثقافة اليابانية منذ الصغر هو مهرجاناتها المميزة واللباس التقليدي. وعندما يتجمع الجميع معاً في دوائر ومجموعات حول الطبول في الساحات والميادين في ليالي المهرجان ليؤدوا الرقصات الممتعة، فكنت أرقص مثلهم، ولكن لم أكن أعلم أن هناك هدف جميل وراء هذه الرقصات التي ترسم السعادة على وجوه الجميع.
في الواقع تلك الرقصة التي أدهشتني دائماً اكتشفت في النهاية أنها رقصة مناسبة الأوبون التي أكتب عنها الآن، وعلمت أن الهدف هو توديع الأرواح ومساعدتها لترجع إلى العالم الآخر بسلامة، بهذا الاعتقاد لاحظت أن الجميع يفرحون فيه ويتحمسون من أجله.
ولا سيما إطلاق الفوانيس العائمة في الأنهار من أجمل المشاهد تأثيراً في القلوب، خاصةً عندما يتشارك الأطفال بكل شوق في صنعها ليعبروا عن أمانيهم الدافئة لأجدادهم وأحبائهم الذين رحلوا عن العالم ويساعدوهم في عدم تضليل طريق العودة للعالم الآخر.
أعتقد أنه حتى وإن كان اعتقاداً آمن به الجميع منذ القدم، فبالنسبة لي عيش لحظات سعيدة كهذه والقيام بالأنشطة الممتعة في فترة هبوط الأرواح على هذه الأرض هو أفضل بكثير من القيام بأنشطة تبث الحزن للذين رحلوا. فالألعاب النارية وتقديم الطعام اللذيذ والرقص معاً كباراً وصغاراً جميعها أنشطة تسعد الأرواح وتسعدنا.
الملخص
مناسبة أوبون من المناسبات القديمة التي مازالت تحتفل بها اليابان حتى الآن، ولكن يُقال إن هذا الحدث بات يتراجع قليلاً في بعض المناطق، ومع ذلك أعتقد أن اليابان من أكثر الدول التي حافظت على تقاليدها وتراثها حتى الآن على الرغم من التطور والتقدم.
وهذا ما يجعلني أعشقها أكثر، هو أنني أستطيع الشعور بروح اليابان القديمة وتاريخها وجمال ثقافتها المميزة. أتمنى أن تستمر مناسبة أوبون للأبد حتى تستطيع الأجيال القادمة بالتعرف على تاريخ وثقافة اليابان القديمة والعريقة التي تحمل معاني عميقة وجميلة في طياتها.